موقع بني بكر||
الصراع الكسادي-البريكي في وثائق تاريخية تُنْشَر لأوِّل مَرَّة(1)
------------------
أ.د.علي صالح الخلاقي:
توطئة:
أقام آل كساد اليافعيون لأول مرة في تاريخ المكلا إمارة مستقلة في القرن الثاني عشر الهجري (1115-1299هـ/1703-1881م) وكانت قبل ذلك قرية صغيرة بعيدة عن أي مركز تجاري أو أدبي أو سياسي وتتبع أي سلطة تفرض سلطانها على الساحل الحضرمي, واستطاع آل كساد أن يلفتوا الأنظار إلى مدينتهم وإنعاشها حتى أخذت تنافس مدينة الشحر من حيث الأهمية( )
وفي الشحر تمكن آل بن بريك من تأسيس إمارة خاصة بهم (1165-1283هـ/1751-1866م)اقتصرت في البدء في السيطرة على المدينة بعد القضاء على منافسيهم من الحاميات اليافعية, وقد رأى الكساديون في قيام الإمارة البريكية مصلحة أمنية لإمارتهم بحكم الروابط القبلية بين الأسرتين اليافعيتين, وظلت العلاقة بينهم قائمة على حُسن الجوار, واتجاه كل منهم للاهتمام بتطوير وتقوية مؤسسات إمارته .
ولكن تطورات الأحداث السياسية في حضرموت الساحل ألقت بتبعاتها على تلك العلاقات الأخوية, ودخلت الإمارتان في نزاعات مع بعضهما البعض, وتحولت إلى عداوة عندما سعت كل منهما للتوسع على حساب الإمارة الأخرى( ).
وبدأ الصراع على التوسع والنفوذ بينهما بسبب سيطرة آل بن بريك على غيل باوزير وطرد آل همام منها فلجأوا إلى النقيب عبدالرب الكسادي مستنجدين به فاستجاب لنجدتهم بدافع تخوفه من توسع آل بن بريك وخشيته من أن تصبح المكلا هدفاً قادماً لهم, ولوقف هذا التوسع قبل أن يمتد ويتسع خطره, أعد العدة لمساعدة بن همام في استرجاع الغيل لتكون الغيل حاجزاً بين الأمارتين, بل وربما طمع بضمها بعد تحريرها إلى الإمارة الكسادية لما تتمتع به من موارد زراعية سترفد الاقتصاد الكسادي. وكانت معركة (الحدبة) أول مواجهة مباشرة بين الجانين, هُزِم فيها الكساديون وفشلوا في استعادة الغيل, وعلى إثرها توسعت شقة الخلاف بينهما وتحولت إلى عداء مستحكم وأخذ كل منهما يحشد ويستقدم المقاتلين من يافع وغيرها ويعد العدة لمواجهات قادمة جرت بينهما.
وتكشف الوثائق والمراسلات التي بين أيدينا, وهي مصادر أصلية تُنشر لأول مرة, حقائق ومعلومات جديدة عن خفايا ذلك الصراع وتقدم مادة للباحثين لتصحيح أو إضافة أو تأكيد بعض المعلومات عن أحداث تلك الفترة التي تعود هذه الوثائق والمراسلات إليها.
ويلزمني الوفاء والعرفان بالجميل الاعتراف بأنني حصلت على هذه الوثائق في أرشيف قضاة وفقهاء يافع آل عزالدين البكري حيث سمح لي الأخ الفاضل ناصر علي محمد الفقيه عزالدين البكري مشكورا بتصويرها مع وثائق ومراسلات كثيرة تاريخية خاصة بعلاقة يافع وحضرموت وغيرها, في زمن جدِّه نائب الشرع الفقيه عبدالحبيب بن أحمد حيدر عزالدين البكري الذي كانت له ارتباطات وثيقة وعلاقة حميمة مع كل من أمراء الدولتين الكسادية والبريكية ومع سادة عينات وسلاطين يافع وآل كثير وغيرهم, ونجده حاضراً في جميع هذه الوثائق, باستثناء واحدة منها, إما كاتباً أو مُخَاطباً من قبل الأمراء الكساديين والبريكيين أو رجالات الدولتين والشخصيات المؤثرة.
يمكن لنا تصنيف هذه الوثائق والمراسلات لتسهيل دراستها والتعليق عليهاعلى النحو الآتي:
المطلب الأول
محاولة التقريب بين آل كساد وآل بن بريك لمواجهة حملة بن قملا
--------------
رغم بدء بوادر الصراع التي بدأت تطفو على السطح بين آل بن بريك والكساديين بسبب أطماع كل منهما على التوسع والنفوذ, فإن حملة بن قملا التي اتجهت إلى الساحل قد حرّكت الجهود في مسعى لتوحيد جهود الأمارتين لمواجهة تلك الحملة قبل وصولها.
تكشف الوثائق والمراسلات التاريخية التي حصلنا عليها وتعود إلى تلك الفترة وتنشر لأول مرة أن التوجس لدى أمراء آل بن بريك حُكَّام الشحر وآل الكسادي حُكَّام المكلا قد كان قائماً, وكانت هناك جهود مبذولة من رجالات الإمارتين بغية توحيد صفهما لمواجهة خطر حملة بن قملاالوهابية التي وصلت إلى حضرموت في عشرينات القرن الثالث عشر الهجري عدة مرات لمحاربة المظاهر التي يرونها بدعةً تتنافى مع عقيدة السَّلف كالقباب والمزارات والأضرحة والأذكار والعودة من حيث أتوا . ومثل هذه المساعي تكشف عنهما للمرة الأولى رسالتان تعودان كما يتضح من مضمونهما إلى قُبَيْل وصول حملة بن قملا إلى الشحر سنة 1224هـ, وتحديداً حينما بلغت عقبة (عبدالله غريب) قادمة من وادي حضرموت في طريقها إلى الساحل الحضرمي, والرسالتان متبادلتان بين شخصيات اعتبارية ذات تأثير ومقربة إلى حُكَّام الإمارتين الكسادية في المكلا والبريكية في الشحر.
1- الرسالة الأولى صدرت من بندر الشحر, حاضرة آل بن بريك, من عبدالله بن يحيى حسين هرهرة, وهو مقرب من الأمير ناجي بن علي بن بريك, وبعث بها إلى بندر المكلا, إلى ابن أخيه علي بن ناصر بن يحيى بن ناصر هرهرة والفقيه عبدالحبيب بن أحمد بن حيدر وعبرهما إلى حُكّام الإمارة الكسادية في المكلا, ويلفت الانتباه إلى أنه لا بد قد بلغهم وصول بن قملا إلى عبدالله الغريب وأن هدفه كما قال:"أن يوكِّل قوة من أهل البنادر ويَرِجَّ بهم في بعضهم البعض (أي يقتل بعضهم بعضا) وبا يهلك الناس".ويذكرهم بما قام به بن قملا من قَبْل من اعتداء على قبة الشيخ أبي بكر بن سالم والحبيب حسين وحبس الحبيب أحمد بن سالم (منصبنا وقبلتنا, والشيخ أبوبكر بن سالم, شيخ يافع وحبيبهم الجميع) كما يصفهما في رسالته. مؤكداً أن بن قملا ما وصل إلاَّ على بلدان يافع وحبابيهم وأما الكثيري رَدَّ من نفسه(أي لم يمسه بأذى). ويطلب منهم التفاهم مع حاكم المكلا النقيب عبدالرب الكسادي لقيام تحالف أو عصبة من أهل البنادر( يقصد الشحر والمكلا) بحيث لا يكون قبول أو تعاون مع بن قملا, ووعد بأنه سيعمل كذلك مع بن بريك الذي يحصِّن الشحر بمراتب عسكرية, وإذا ما قُبضت الشحر والمكلا فلن يجد بن قملا مدداً وسيفشل في نهاية المطاف, أو كما جاء بالنص:" إن عرفتوا سادتي إن شي عُصبة ومِسْعِدِة با تقع عليه (أي ضد بن قملا) من أهل البنادر مرادنا تخابرون النقيب عبدالرب لا يكون قبول له ولا ماده واليد ماخذه عليه فنحن با نعصب بن بريك ونشل كلام عليه وقده مقوِّي الشحر مراتب وإذا قبضت الشحر والمكلا ولا له ماده تاليه يضمحل". وأكد أنهم من جانبهم لن يألون جهداً في التحشيد بعد ما حدث من تكسير لقباب عينات وحبس الحبيب أحمد سالم. وطلب منهم أن يبلغوه إذا ما عرفوا أن هناك رغبة لعُصبة وائتلاف سيكون بين النقيب عبدالرب الكسادي وناجي علي بن بريك ضد بن قملا( ).
2- جاء الرد سريعاً من قبل علي بن ناصر بن يحيى بن الشيخ علي هرهرة والفقيه عبدالحبيب ابن أحمد حيدر, في رسالة جوابية بعثا بها إلى الحبيب شيخ بن عبدالله بن أحمد آل الشيخ أبي بكر بن سالم وكذلك السلطان عبدالله ابن يحيى بن حسين ابن الشيخ علي هرهرة في الشحر, وهما من ذوي المكانة لدى آل بن بريك, تشير الرسالة إلى خبر وصول بن قملا ومن معه إلى البنادر(الموانئ) وطمعه في أن يفتن بين أهالي البنادر (با يرج في بعضهم البعض) وأن هناك من أوعز له ذلك وهو ما لا علم لنقيب المكلا الكسادي به ولا يرضاه, وجاء بالنص:" إن الوالد النقيب عبدالرب بن صلاح(حاكم المكلا) ما عنده علم ولا هو راضي, والله الشاهد قوله تعالى: إن من أموالكم وأولادكم فتنة، وصار بن قملا يتابع قبصات(وخزات) يافع وهتك مناصبهم سبب رضا بعضهم البعض ولا أحد قام في وجهه, والتالية (في الأخير) عاد معه الشحر والمكلا واعلموا ان قام لهدته (لمواجهته) بن بريك فهو لها أهل وقصد نحوه وان هو الكسادي, وكذلك فإن الله با يهدي وبايقدر صالحت أحوالهم وصارت اليد واحده وعسى الله يؤلف بين قلوبهم"( ).
3- لقيت جهود الشيخ علي بن ناصر ابن الشيخ علي بن هرهرة ، وكذلك الفقيه عبدالحبيب بن أحمد حيدر المبذولة للتقريب بين الكسادي والبريكي تجاوباً ومباركة من قبل الأمير ناجي بن علي, حسبما اتضح من رسالة بعث بها إليهما في يوم السبت 26 من محرم سنة 1225هـ( ), رداً على رسالة يذكرون فيها اجتهادهم وعنايتهم بين في الوصول إلى نتائج في الحوار بين أصحابه وبين النقيب عبدالرب بن صلاح الكسادي, مؤكداً أن ذلك ما يأمله من جانبه. يقول في رسالته:"وكتابكم العزيز وصل وما شرحتم الجميع تحققناه، تذكرون أنكم اجتهدتوا واعتنيتوا مع الجماعة أصحابنا وخَتَّمتوا كلام بينهم وبين الوالد النقيب عبدالرب صلاح فهذا المرجي والمسهون منكم وأنتم أهل لذلك، فجزاكم الله خير، وكان مرادنا يجوِّب عليكم، لكن الخط وصل ونحن مربوشين بمحيط من كل مكان فلا عاد أمكن لنا نجوب عليكم، إنما جعلنا لكم هذا الكتاب جواب، وهو على عجل، صحبة الوالد أحمد بن سالم الذيباني مع التحصلة وهم قيام في الساحل".
ويبدو أن تلك الجهود لمحاولة توحيد الجهود بين بين الكسادي وبن بريك لم تثمر, ربما لتوجس الطرفين من بعضهما البعض. ولذلك لم يكن بد للأمير ناجي بن علي من القبول بقدوم بن قملا وعدم اعتراضه أو مواجهته طالما لم يهدف للسيطرة أو الاستيلاء على الحكم واقتصرت مهمته على إزالة ما لم ينص عليه الشرع مما يعمل من تجصيص القبور وإقامة التوابيت والقباب والتوسلات بالأموات إلى غير مما اعتبروه مخالفا لعقيدة الإسلام الصحيحة.
*****
(من الورقة المقدمة إلى المؤتمر العلمي الرابع "التاريخ والمؤرخون الحضارمة في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي" الذي نظمه مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر يوم 19ديسمبر2019م في المكلا- حضرموت)
يتبع غداً
الصراع الكسادي-البريكي في وثائق تاريخية تُنْشَر لأوِّل مَرَّة(2)
-----------------------
أ.د.علي صالح الخلاقي:
المطلب الثاني
وثائق ومراسلات تخص تاريخ الدولة البريكية
من أهم هذه الوثائق التي بحوزتنا اتفاقيتان متقاربتان في التوقيت ومتشابهتان في المضمون بين النقيب ناجي بن علي بن ناجي بن بريك عبر ممثليه وبين كل من آل بني بكر وآل خُلاقة في يافع سنة 1225هـ( ). والوثيقتان من أقدم الوثائق التي تُنشر لأول مرة عن تاريخ الإمارة البريكية في الشحر, وهما بقلم الفقيه عبدالحبيب بن أحمد حيدر عزالدين البكري نائب الشرع وقاضي بني بكر وكانت له ارتباطات وثيقة وعلاقة حميمة مع كل من أمراء الدولتين الكسادية والبريكية ومع سادة عينات ومع سلاطين يافع وآل كثير, وكانت علاقته مميزة بشكل خاص مع الكساديين, كما سيتضح لاحقا.
والإطار الزمني لهاتين الوثيقتين يعود إلى عشرينات القرن الثالث عشر الهجري التي شهدت تنافساً وصراعاً على التوسع والنفوذ بين الإمارتين البريكية والكسادية بحكم جوارهما الجغرافي المحصور بين المكلا والشحر ومحيطهما، بل ودارت بينهما معارك ومواجهات لسنا بصدد الحديث عنها، غير أن ما يدفعنا للإشارة إليها هو أن الوثيقتين اللتين بين أيدينا ذات صلة تاريخية بهذا الصراع وحشد كل طرف أنصار ومقاتلين، خاصة من الداخل الحضرمي أو من منطقة يافع.
1- حُررت الاتفاقية الأولى يوم السبت، منتصف ربيع ثاني سنة 1225هـ، بحضور الشيخ عبدالله بن عوض بن دينيش البكري وعُقّال بني بكر، كطرف يمثل بني بكر، وهي أكبر بلدة في يافع الجبل، ويمثل (آل بن بريك) كل من ياقوت حيدر وعبدالرب بن مطر، نيابة عن سيدهم النقيب ناجي بن علي ناجي بن بريك وبإشراف المسئول المباشر عنهم الشيخ عبدالقوي بن صالح علي ناجي الناخبي، وتقضي الاتفاقية بما يلي( ):
- التزام الشيخ عبدالله عوض دينيش وعُقّال بني بكر وبني بكر ومن سار سيرهم بأنهم تُبْعَة وسُمْعَة وسامعين مطيعين بما وجههم فيه ناجي بن علي ولا أحد له تقديم ولا تأخير إلا بما أمرهم به على أيٍّ من كان، بعيد أو قريب َ،يافعي أو قبيلي، وأن يكونوا حافظين صائنين لسمعة ناجي علي مما يلوثها، في أي مكان يتواجدون فيه في خلاء أو بلاد، أو أمام شاتم أو لائم أو صديق أو حليف، خلافاً لما وجههم (صرفهم) فيه بالسمع والطاعة وأن يكون أمرهم وشورهم ورأيهم لله ولناجي بن علي.
- أن يكون راتبهم (قُلمتهم) من حال وصولهم إلى بندر الشحر لكل فرد خمسة قروش شهريا، إلى جانب غذائهم الكافيٍ.
- أن تُدفع لهم تكاليف عودتهم (زلاجهم) عند ما يتروحون بعد الاستغناء عنهم، بما يوصلهم إلى بيوتهم وساعية تنقلهم إلى بندر شقرة، بما في ذلك القوت وأجرة إيصالهم (الكراء).
- للعسكر عند وصولهم الكساء الذي يشرِّف (يشيِّم) ناجي بن علي بن بريك، وعليه التزامات (قيُوس) وثيقة ترضي الشيخ عبدالقوي بحدوث أي خلل من ساحل شقرة.
- من قدر الله عليه بمرض أو موت تكون مستحقاته جارية أسوة بأصحابه حتى يعودون(يتروَّحون).
2- الوثيقة الثانية، مؤرخة يوم الثلاثاء، الموافق 18ربيع ثاني سنة 1225هـ، وهي شاهد كريم بيد الشيخ حسين بن صالح محُمَّد أحمد الخلاقي وعُقّال خلاقة وآل خلاقة ومن سار سيرهم من قبل الصدر الشيخ عبدالقوي بن صالح علي بن ناجي الناخبي ممثلاً للنقيب ناجي بن علي ومعه ياقوت حيدر وعبدالرب بن مطر، وأهم ما تضمنته( ):
- التزام ممثلي بن بريك للشيخ حسين بن صالح ولأصحابه أهل خلاقة في راتبهم الشهري (قُلمتهم) من حال وصولهم بندر الشحر.
- أن يكون للنفر راتب خمسة قروش عين كل شهر وقُوتهم وكساهم عندما يصلون بندر الشحر، وكذلك تسليحهم (باروتهم ورصاصهم وفتيلهم).
- عند انتهاء العقد أو حالما يستغني عنهم ناجي بن علي فللمذكورين تكاليف إيابهم إلى جبال يافع، بما في ذلك ركوبهم إلى شقرة وأجرة وصولهم إلى جبال يافع.
- لا يحق لهم من حين وصولهم إلى الشحر ولمدة ستة أشهر المغادرة (أي ليس لهم فَسْح)، أما بعد الستة الأشهر فالقرار بيد ناجي بن علي إما أن يسمح لهم بالمغادرة أو يجدد مكوثهم حسب الراتب المحدد في أول الوثيقة (المسطور).
- يؤكد الثلاثة الممثلون لآل بريك، الشيخ عبدالقوي بن صالح وعَبِيْد النقيب ناجي بن علي بن بريك، أنهم القيِّمون بأمر القوم (عرّيفتهم) بما قصر عليهم جراء ذلك بالرضا والخيرة.
- يلتزم آل بن بريك بأن من قدَّر الله عليه بموت أو قتل أو مرض فله راتبه الشهري وغير ذلك أسوة بأصحابه حتى يُسمح بمغادرتهم (يُفسحون).
لا شك أن لجوء الأمير ناجي بن علي إلى عقد مثل هذه الاتفاقيات يؤكد ما قيل عن حنكته ودهائه وفِراسته وبُعْد نظره وحسن تقديره للأمور فبدا بذلك وكأنه يستبق تطورات الأحداث اللاحقة ويحتاط لها ويعد العدة للتحكم بها واحراز النصر في الصراع القائم بينه وبين الكساديين في المكلا.
وعقد مثل هذه الاتفاقيات لم يبتدعها آل بن بريك لتعزيز قوتهم، بل ساروا على نهج من سبقهم ، بما في ذلك آل كثير وغيرهم، واعتمدوا على صلة القرابة في جذب مقاتلين مؤقتين من يافع، حسب الحاجة لذلك كما تنص الاتفاقيتان، إلى جانب اتفاقيات مماثلة أُبرمت مع قبائل حضرمية أخرى، ويلاحظ أن عقد هذه الاتفاقيات قد سبق الاحتكاكات والمواجهات اللاحقة مع الكساديين، الأمر الذي ينم على بُعد نظر النقيب علي بن ناجي واستعداده المبكر لاحتمالات المخاطر القادمة التي أثبتت الأيام صحتها.
وتقدم هاتان الوثيقتان معلومات جديدة مفيدة تسد بعض النقص في تاريخ الإمارة البريكية التي لجأت إلى عقد اتفاقيات مماثلة مع قبائل أخرى من حضرموت ويافع بغرض تعزيز أركانها في مدينة الشحر وما جاورها والدفاع عنها من أية مخاطر محتملة تهددها، كما بينت الأحداث لاحقاً.
كُتبت الوثيقتان باللهجة المحلية ووردت فيهما كلمات ومصطلحات يبدو لنا بعضها غريباً، لكن لها دلالاتها ومعانيها الواضحة في العُرف القبلي، ومع ذلك فقد شاب الوثيقتين الكثير من الأخطاء الإملائية، وقد تدخلنا في تصويبها في النص بما لا يخل بالأصل المنشور للوثيقتين، كما يوجد فيهما تكرار ممل لبعض العبارات والألفاظ، وعدم وضوح بعض كلمات قليلة وقد اجتهدنا في توضيح معناها لتسهيل فهم النص، من خلال وضع هوامش توضح معاني المفردات العامية بشكل عام.
وإجمالاً فأن عباراتها وألفاظها كانت واضحة دون شك لدى أطرافها في ذلك الزمن، وهذا بيت القصيد من كتابتها حينها، فقد كُتبت ليس بغرض النشر والتعميم وإنما لتحديد التزامات الأطراف بوضوح تام وباللهجة التي يتحدثون بها وأدت بذلك الغرض من صياغتها.
والوثيقتان متشابهتان بالنص والمضمون ومتقاربتان بالفترة الزمنية، بفارق ثلاثة أيام بينهما بحكم قرب المسافة بين بني بكر وخُلاقة المتجاورتان في يافع، وكاتبهما واحد، هو نائب الشرع العالي الفقيه عبدالحبيب بن أحمد حيدر، وهذا اللقب حصل عليه من سادة عينات الذين كانوا يتمتعون بسلطة روحية طاغية في يافع، وكان هو يحظى بتقدير عالٍ لدى أمراء آل بن بريك وغيرهم، ولمكانته وكبر سنه فأنه يصف النقيب ناجي بن علي بـ(الولد).
3- نعتقد أن اتفاقيات مماثلة عُقدت مع مناطق أخرى من يافع وحضرموت, وما يؤكد اعتقادنا رسالة من غالب بن عبدالله بن صالح يحيى هرهرة إلى الفقيه عبدالحبيب أحمد بعث بها من الشحر إلى حيدر وعبدالحبيب حسين الشرفي وعبدموسى علي في يافع, تعود إلى سنة 1225هـ( ), بدليل قوله أن بن بن قملا وصل بقوم إلى الساحل, أي إلى الشحر, ورجع مكسوراً, ثم وصل بقوم إلى حورة وأخذ عدة أيام ونفذ إلى القبلة , ويذكر أنه اتفق مع الأمير ناجي بن علي على إرسال الولد ياقوت لغرض طلب 200شخصاً من آل الشيخ علي بن هرهرة وأهل مكتب الضُّبَي. يقول في رسالته محثاً إياهم على تلبية الطلب:" وبعد تخابرنا نحن والصنو ناجي علي على نفوذ الولد ياقوت إلى عندكم ومراده ميتين نفر من بيت الشيخ علي وأهل الضُبي لحيث أنه مطوّل فيكم زايد على الناس الجميع، والله الله في الجودة والهمة لحيث أنكم من أهل الجودة وأهل العار والنّكف لحيث أنكم لنا وله ولا تخيَّر إلا أنتم وصدر كتاب للسلطان أبوبكر عمر وبيت الشيخ علي ما فيه من التحقيق كفاية.. وقدكم الله الله في الهمة والعزم مع الولد ياقوت لحيث الولد ناجي راد ضمه إلى بيت الشيخ علي وأهل السفال وفرحنا حد الفرح يوم طلب المذكورين لحيث مرادنا لهم الجودة والظهور والمصاريف تقع لهم ولا لغيرهم والأرض خذوها أهل السفال ولا يوكلونها غيرهم الله الله في العزم والهمة والسلام".
وياقوت هو ذاته ياقوت حيدر الذي مثل (آل بن بريك) إلى جانب عبدالرب بن مطر، وبإشراف المسئول المباشر عنهما الشيخ عبدالقوي بن صالح علي ناجي الناخبي عند توقيع الاتفاقيتين المذكورتين سلفاً مع كل من بني بكر وخلاقة.
4- رسالة هامة مؤرخة في 3 رمضان سنة 1225هـ, وجهها الأمير ناجي علي ناجي بن عمر بن احمد بن بريك إلى الفقيه عبدالحبيب بن أحمد حيدر عزالدين البكري، يصفه فيها بالوالد احتراماً( ), وهي ذات صلة بالوثيقتين السالفتين المُبرمتين بين آل بن بريك وكل من خلاقة وبني بكر. فبعد الاستهلال بالسلام وذكر أخبار الشحر الساكنة والصالحة وكذلك بعض أخبار حضرموت, يأتي على بيت القصيد أو الهدف المراد الذي أوجب إرسال كتابه, وهو الاستغناء السريع عن العساكر الذين قدموا من خلاقة وبني بكر في يافع وفقا للاتفاقيتين وبما من مناطق أخرى من يافع, ويقول أنه أجرى لهم المصاريف ودفع الرواتب الشهرية (القُلمة) المحددة, ويبرر الاستغناء عنهم بهدوء الأوضاع وأنهم طلبوا العودة (الفَسْح) وتم لهم ذلك بكل تقدير ووفاء. حيث جاء في رسالته:"والذي أَوْجَب الكتاب إليك خَيْر, من شان العسكر وصلوا وقامت لهم المصاريف والقُلمة حسب ما حددوا ، وبعد ذلك شُفنا الأرض سكُون من فضل الله الكريم واستخاره وطلبوا منا الفَسْح وتمَّمنا نحن وهم على فَسْحهم وساروا من عندنا على جبر وحشمة ووفاء". ويشير أنه طلب عُقّال (شيوخ) بني بكر واتفق معهم على تجديد الأحلاف والعهود السابقة, وحينما تظهر له حاجة (عازة) فسيصل إليهم كتابه, يقول:" وبعد إنا طلبنا عُقّال بني بكر وتقارنا أحلاف وعهود سابقة وجدناها نحنا وهم من محضر الوالد عبدالقوي بن صالح وشكرهم إليك جم جم ، وحسبما يخابرونك من ألسنهم كفاية وعندما تبدا لنا عازة فكتابنا يصلهم، لحيث نحنا وأنتم من سابق الزمان العهد بالوسط ، وكلّن وجهه يرده، وحليف اثنين كذاب، والمذكورين صدروا مصحوبين السلام حسبما يخابرونك ".
ولعله قصد بقوله (حليف اثنين كذاب) التلميح غير المباشر لعلاقة الفقيه عبدالحبيب وبني بكر المتميزة مع الكسادي. ومثل ذلك الارتياب سنراه أيضاً لدى الكسادي حين علم بتوثيق الفقيه للاتفاقيتين بين ممثلي بن بريك وكل من خلاقة وبني بكر.
5- من أهم الوثائق التاريخية التي تعود إلى رأس الإمارة البريكية وننشرها لأول مرة رسالة من الأمير ناجي بن علي بن ناجي بن عمر بن بريك إلى السلطان أبوبكر بن عمر بن قحطان بن عمر بن صالح ابن الشيخ علي بن هرهرة محررة يوم السبت 15 من شوال سنة 1226هـ( ), يشكو فيها مما أقدم عليه الكسادي في الموسم التجاري صيف العام الماضي, أي سنة 1225هجرية, من اعتداء صارخ على بندر الشحر بعدد من السواعي (السفن) قطعت الطريق أمام من أراد الوصول إلى الشحر وإعادتهم إلى المكلا, فتسبب ذلك بقطع حركة البندر وتعطيل أرزاق الناس من شريف وضعيف ومسكين دون مراعاة للعهود, بل وأخذ سواعي آل بن بريك وسواعي رعيتهم وأموالهم وذبح عبيدهم, (من بعد عهد الله وأكل وشرب), وهو عمل لم يقم به أحد من قبل ولا من بعد, حتى أصبح بندر الشحر خالياً من السفن (السواعي).
وكما يتضح من الرسالة فأن هذا الحصار الاقتصادي الذي تسبب في ضرب اقتصاد إمارة بن بريك وإصابته في مقتل, خاصة وأن موارد ميناء الشحر هي التي تمد إمارة آل بن بريك بالموارد المالية الضرورية لقوتها, ولهذا كان لا بد من التعاطي مع هذا الخطر الداهم والوقوف أمامه لكبح جماحه قبل استفحاله وزيادة خطره, وهذا ما تم حسبما يتبين من هذه الرسالة, حيث أوضح أنه في آخر الموسم وصل مركب نقل(داونا الثالث) من السواحل الأفريقية وبعثوا له زورقاً يسحبه من عرض البحر ووصل إلى البندر, فيما كانت سفن (سواعي) الكسادي متوقفة(طارحه) في عرض البحر, وفي نهار اليوم التالي تحرك حوالي 70 عسكريا من آل بن بريك في (داونا) باتجاه سفن الكسادي وهجموا عليها بغته ودارت معركة بحرية بين الطرفين قُتل فيها من أصحاب الكسادي قدر ستة أشخاص وعادوا أدراجهم إلى المكلا جراء ما حدث لهم.
وعاد (الدّاو) بجنود آل بن بريك إلى بندر الشحر, ثم أرسل الأمير ناجي بن علي بعد ذلك رسائل إلى جميع الجهات, سيئون وتريم وبلدان حضرموت وقبائل جهاتهم طالباً وصولهم, وتمكَّن من جمع حوالي ثلاثة ألف مقاتل, واتجه بهم في هجوم على المكلا, ودارت الحرب مع الكسادي ومُني بهزيمة (كسره الله) وقُتل منهم حوالي 40 شخصاً, منهم أحمد عبدالرب الكسادي وسيف بن سالم وبن ظمل وشخص من أصحابهم والبقية من عرب وعبيد.
ومن الرسالة نعرف أنه بعد هذه الحرب والحصار والضرب بالمدافع على بيوت وحصون الكسادي أرسل الشيخ عبدالله باعمر وسيطاً إلى آل بن بريك بعقيرة لكي يرفعوا الحصار وينسحبوا على أن ترجع لهم السفن (السواعي) والعبيد وغير ذلك, وقبلوا بذلك لأجل صيانة الضعيف والمسكين, ثم أقيم صلح بين الطرفين لمدة سنة. وتذكر الرسالة أن آل بن بريك أرسلوا أخدام السواعي (العبيد) لاستلامها من المكلا وبعد ثمانية أيام عادوا بدونها بسبب مماطلة الكسادي, وبعد ذلك وصل إليهم السيد محمد بن عقيل إلى البندر في مركب كبير لمساعدتهم وبعد وصولهم إلى بندر الشحر ابتاعوا منه المركب, ثم جاء خط الكسادي يطلب وصول أخدام السواعي بعد أن تركهن عرض البحر, وحُكمهن – كما جاء في الرسالة- إن شاء الله واصلات.
ويذكر أنه قد أرسل كتاب (رسالة) من الحرشيات من طريق بر دوعن وفيه أخبار واعلام وتفاصيل كاملة بحقيقة ما حدث بين آل بن بريك والكسادي. وفي ختام هذه الرسالة التي أرسلها عن طريق البحر نعرف بيت القصيد أو الهدف من إرسالها وهو بث السلطان شكواه من وقوف بيت آل الشيخ علي بن هرهرة إلى جانب الكسادي ضد آل بن بريك, ويقول أنه ما كان هذا واجب منهم خاصة وأنهم أخوال وبينهم عهد الله وأحلاف, والقصد أن يتدخل السلطان لدى آل بيت الشيخ علي حتى لا يستمرون في مساعدة أي كان قريب أو بعيد ضد آل بن بريك.
ونستنتج من مضمون هذه الرسالة أن أحداث تلك الحرب التي جرت في سنة 1225هجرية كما في رسالة الأمير ناجي بن علي , تتطابق مع ما ورد في بعض المؤلفات من أنها جرت سنة 1227هـ. التي بدأت باعتراض الكسادي للسفن القادمة من سواحل افريقيا والمتجهة إلى ميناء الشحر, والمملوكة في معظمها لتجار من الشحر, ومصادرة ما بها من أموال واقتيادها إلى المكلا, مما دفع الأمير ناجي علي بن بريك إلى الرد على تلك القرصنة البحرية فأعد العدة والتقى مع قوات الكسادي في الحرشيات والحق الهزيمة بالكساديين حتى وصلت قواته إلى البقرين وديس المكلا وسيطر ثالث يوم على حصون قارة المكلا وأطلق نيران مدافعه على حصون الكسادي وأسفرت عن مقتل أحمد عبدالرب الكسادي ومعه سيف بن سالم وبن ظمل وشخص من أصحابهم والبقية من عرب وعبيد. كما ورد في رسالة الأمير ناجي بن علي , ثم طلب الكساديين الصلح خشية من دخول آل بن بريك إلى المكلا, ولعبت وساطة آل العيدروس دوراً في إنجاح الصلح..
ولعل رسالة الأمير ناجي بن علي تدفعنا لإعادة تصحيح تاريخ تلك الحرب, ويكفينا أن نعتمد رواية من أرّخ لها وهو الأمير ناجي بن علي نفسه التي قاد تلك الحرب بنفسه وأورد في رسالته تفاصيل دقيقة لم يسبق أن وردت من قبل, منها أسماء السفن والقتلى وحركة قواته وقوات خصمه الكسادي..الخ.
************
(من الورقة المقدمة إلى المؤتمر العلمي الرابع "التاريخ والمؤرخون الحضارمة في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي" الذي نظمه مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر يوم 19ديسمبر2019م في المكلا- حضرموت)
****
يتبع غداً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق