متابعات|موقع بني بكر|
الدكتور محمد صالح الصلاحي
روتشستر نيويورك
في أحد لقاءاتي بالأمريكيين ذوي الأصول الجنوبية والمخصصة لنقل معاناة المدن الجنوبية عامة وعدن خاصة وساكنيها الصامد ين في وجه الحصار والدمار والإبادة، وكذا رفع درجة فهم ووعي الجيل الجديد حول أصولهم وجذورهم التاريخية حتى يتعمق لديهم حب الانتماء لوطن الآباء والأجداد .
كنت مدركا بأن مهمتي صعبة فسأخاطب جيلاً ولد وعاش وترعرع بعيداً عن وطني ووطن آبائهم الأول. وإدراكاً مني بأن للمثل قوته في التأثير طلبت من الوالد صالح فاضل الصلاحي ان يساعدني في تقديم تجربته في مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني وما بعدها وتقديم الأمثلة الواقعية والحقيقية والنماذج التاريخية فأبدى رغبته في المشاركة، وتعجبت كيف استمعوا لحديثه بشغف وحماس كبيرين .. فأدركت بان مهمتي ليست صعبة، كما توقعت، إذ أن تفاعلهم قد أظهر جلياً بانهم يعشقون تاريخهم حتى الولع، فقد أخذوا يصفقون تلقائيا عندما تطرق في وصفه لما يحدث الآن على جبهات الجنوب العربي من مقاومة اسطورية قائلاً:" ما أشبه الليله بالبارحة فالتاريخ يعيد نفسه.. ففي الجنوب العربي .. في الستينيات من القرن الماضي كان أبطال ثورة ١٤ أُكتوبر قد سقوا الفولاذ وصلبوا الحديد وغربوا شمس الامبراطورية العظمى وانتصروا للحق والحياة". وأوضح لهم من واقع تجربته النضالية بأن التاريخ والتجارب الثورية توكد حقيقة أن ما أخذ بالقوة لن يسترد الاَّ بالقوة، مؤكدا أنه قد اطمأن الان بعد انتظار مؤلم وطويل بأن أحفاد سالمين، عنتر، مطيع ، مدرم ، وبدر يعيدون كتابة التأريخ بأروع الصمود والشجاعة والاستبسال ضد برابرة وتتار العصر أعداء الحضارة والحياة وان النصر حتما سيكون حليفهم.
ما لفت انتباهي في هذا اللقاء أن الحاضرين من الشباب لبسوا قمصاناً بيضاء موحدة رُسمت عليها في مقدمتها صورة رجل تبرز في تقاسيم وجهه الوسامة العدنية في أروع صورها، وفي هيئته زهو وكبرياء، وقامته السامقة تعكس شموخ الانسان الجنوبي وعزته. وعلى ظهر قمصانهم كتبت عبارة (عدن ستنتصر حتما بقدرة الواحد احد).. تذكرت بأن تلك العبارة مُسجلة لصاحب الصورة .
سألتهم لماذا زينتم ملابسكم بصورة هذا الانسان ؟
أجابوا بتلقائية أذهلتني وكأنهم متفقون مسبقاً على الاجابة:" إن سلوكياته ومواقفه أقنعتنا بأنه رمز لوطن وشعب، فالوطن يسكن في قلبه وتعلمنا كتاباته الكثير عن التأريخ المجيد لآبائنا وأجدادنا، ومنها نستمد الفخر بالانتماء للجنوب العربي، ففي صوته تشعر وكأنما يتحدث ضمير الوطن والإنسان .. ينقل دون كلل أو ملل لحظة بلحظة تفاصيل ذلك الصمود الأسطوري لأبناء عدن والجنوب الباسلة التي أذهلت العالم وجعلتنا نعتز بانتمائنا لأرض الآباء والأجداد، وهذا دفعنا للبحث في أسرار ذلك الصمود والتصدي .. بل أنه وبسبب خطابه الإعلامي القوي ضد من اعتلوا المنابر الاعلامية لتشويه الحقيقة وقنصها لقتلها ومن حملة المباخر الاعلامية المأجورة التي تحاول أن تعتم بدخانها حقيقة الأهداف الدنيئة لتلك الحرب الظالمة والغاصبة للأرض والهادفة لإذلال وتركيع شعبنا قد جعلنا نتفرغ لقراءة تأريخ الجنوب العربي .
قال أحدهم: لقد قرأت كثيراً عن مدينة عدن التي كان فيها مسقط رأس أبي وبحثت عن أصول أهلها وساكنيها .. فوجدت ان عدن ولقرون خلت قد احتضنت بحنان كل الديانات وكل أجناس وطوائف البشر ورحبت بكل المهاجرين من كل بقاع ألأرض دون فرز أو تمييز .. ففيها يعيش العربي والأفريقي والهندي والأوروبي بحب وأُلفه وانسجام ، وتأسفت كثيراً كيف سُلمت هذه المدينة رمز الجنوب لقياصرة الظلم والفساد وعلى طبق من ذهب ليعيثوا فيها فساداً.. قوماً كانت توصف نخبتهم السياسية من قبل زعيمهم المخلوع بأنهم ثعابين بل وامتدح وبدون خجل قُدرته في الرقص على رؤوسهم .
كان هذا الشاب جريئاً في طرحه حتى أنه اختتم حديثه بقوله: إذا تريدون أن تخدمونا فعليكم أن تساعدونا في الوصول إلى عدن لنصرة ومؤازرة إخواننا وأهلنا أبناء عدن في حربهم من أجل الكرامة والحرية وصوناً للأرض والعرض وعندها يكون من حق كل منا أن يفتخر بأنه "عدني أصلي"، أما محاولتكم تدعيم روح الانتماء وغرس الحب لوطن الآباء في عقولنا فقد سبقكم اليه الإعلامي والبطل والإنسان عادل اليافعي.
قبل اللقاء، كانت تجول في ذهني أفكار وخواطر متسلسلة ومترابطة، لكن حماسة الشباب وفهمهم لقضيتهم وادراكهم لدورهم قد أذهلني مثلما ذُهلت قبلها كيف حوَّلت تلك الحرب الظالمة أبناء عدن المسالمين إلى أبطال ليس لهم نظير.. بل أن على قواميس اللغة أن تعيد النظر في تعريف البطولة والشجاعة.
كانت مفاجأة عمق فهم جيل الشباب لجذورهم ودورهم المطلوب إزاء الأحداث قد أربك تناسق افكاري وأعاق استرسالي في الحديث.. وأدركت من تلك الصورة التي تزين صدورهم بأن هناك من سبقني إلى قلب وعقول شباب أمريكا ذوي الأصول العدنية .. وهنا أعترف للإعلامي عادل وأقول له: إنك قد هزمتني في معركة الهوية والتاريخ بأرضي و بين جمهوري فما أقوى تأثيرك يا رجل .. أتدري سأتقبل ذلك بروح رياضية فعمق الجرح والألم الذي احدثه الغزاة يجعلنا نتسابق في الأعمال الإنسانية الخيِّرة، فالعدو همجي ومتخلف وغاشم.. يقتل ويقضي على كل شيء جميل في حياتنا وذكرياتنا .. ثم ماذا يعني ان ينتصر للخير ابن البريقا على ابن خورمكسر، فجميعنا ابناء عدن ونحبها لأنها منار التقدم والسلم والحياة، ونحن أيضاً نعشق الموت لحماية من نحب .
غادرت القاعة عائدا الى مدينتي أجر اذيال الهزيمة ولكن بسعادة بالغه لابساً ذات القميص الأبيض وعليه صورة الإعلامي والرجل والانسان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق